جامعة النجاح الوطنية
An-Najah National University

You are here


بقلم: ميساء ابوزهيدة

تحرير: دائرة العلاقات العامة

ليسَ مِنَ العَدلِ أَن تَطأَ قَدمُكَ ذاكَ الثَرَى دونَ أَن تَكتُبَ بِضعَ حُروفٍ تَصِفُ ما قَد حَصَل, ولَيسَ مِنَ العَدلِ ‏أَيضاً أَن تَكونَ فِي حَضرَةِ تِلكَ البُقَعِ دونَ أن تُنصِفَ الأَرضَ والثُرَيا وحَتى  البَحرَ والنَهرَ بِبِضعِ كَلِماتٍ قَد ‏يَعجَزُ عَنها الكَلامُ في لَحظَةٍ ما.‏

حينَ تعبرُ تِلكَ البَوابَةَ الصُغرى في تِلكَ اللحظَةَ التي يَلتقِي فيها جِسمُ الطائِرَةِ أَو عَجَلاتِها المُنسدِلَةِ مَعَ ‏جُزَيئاتِ الثَرى بَعدَ رِحلَةٍ طَويلَةٍ قَد تَستَغرِقُ عَشر ساعاتٍ وَأكثرَ مِن عُمرِكَ لِتَصِلَ إلى تِلكَ الكيلومِتراتِ ‏المُرَبعةِ, سَيبدأُ كَم هائِلٌ مِن هَواءٍ عَبِقٍ غَريبٍ بِالتدفقِ شَيئاً فَشيئاً إلى رِئتيكَ في اللحظَةِ التي يَلتَقي فيها ‏جِسمُك مَعَ الجوِ, فَتشعُرَ وكَأنهُما قَد عادَتا للحياةِ بَعدَ هَجرٍ طَويلٍ, سَيَكونُ ذاكَ الهَواءُ مُشبَعاً بِمَشاعِرَ قَد ‏تَكونُ  غَيرَ مَألوفَةٍ  لَم تَشعُر بِها قَبلَ ذلك, لكن ذلكَ الهَواء وَأَرضَهَ سَيكونانِ قادِرانِ عَلى زَرعِ ما لَم يُزرَع ‏داخِلَ غُرَفِ جِسمِكَ المُتَعَطشِ لِلجَمال, وحَتى الحَرارَةُ التي سَتَلمِسها فِي تِلكَ اللحَظاتِ سَتَكون مُختَلِفةً ‏بِشَكلٍ يَجعَلُ الشٌعورَ يَنتَقِلُ بِسُرعَةٍ هائِلَةٍ إلِى عُمقِ قَلبِكَ فَيَكادُ يَشحَنُ بَطارِيَةَ قَلبك بِكَمٍ هائِلٍ مِنَ الحُبِ ‏الفائِضِ, فَيَملَأ جِسمَكَ مِن أَعلى رَأسِكَ إِلى أَخمَصِ قَدمِكَ بِذاكَ الإِحساسِ اللامُنتَهي.‏

وَرِوايَةٌ أُخرى تُروى بِلسانِ تِلكَ الدَرَجاتِ المُتراصةِ أَو القِطَعِ المُتلاصِقَةِ  عُنوانُها عُمقُ الشعورِ الحَنينِي ‏المُختلطِ بِانتِماءٍ قَد تَشعُرُ بِهِ لِأَولِ مَرةٍ, وِيَجعَلُكَ تُحِس بِشُعورِ الغائِبِ العائِدِ إِلى وَطَنهِ حتى وَإِن كانَت هذِه ‏المَرة الأُولى التي تَدوسُ فِيها قَدَمُكَ أَرضَ ذلِكَ المَطارِ, وسَتُجبِرُ كُل تِلكَ المَمَراتِ والقِطَعِ الحَديديةِ قَدَمَيكَ ‏عَلى السيرِ بِخُطى ثابِتَةٍ كَمَن يَسيرُ إِلى كَنزِهِ المُنتَظَر, سَتَشُدُكَ مُجَسماتُ الأَيادِي المَنثورَةُ عَلى جُدرانِ ‏المَطارِ بِحَرَكاتِ أصابِعِها الغريبةِ, فتنقلكَ إلى مَكانٍ آخرَ وتَجعلُ عَقلَكَ يذهَبُ في رِحلَةٍ أُخرى مُختَلِفةٍ, ‏وَتَتنقلُ بِكَ بِجَولَةٍ اللاوعي داخلَ جِسمِكَ المَأخوذِ بِمَشاعِرِ قَلبِهِ, وَتَأخذَ عَقلَكَ الباحِثَ عَن مَعاني الحَرَكاتِ ‏الغَريبَةِ ومَقاصِدِها إَلى عالمِ آخَرَ, ثُم تَلتَقي ذلكَ الرَجلَ الهِندي المُتَوجِ بِقبعَةٍ أَو غِطاءِ رَأسٍ مُمَيزِ لِيَبتَسِمَ ‏ابتسامَةً باعِثَة لِلحُب ترسمُ الترحيبَ بِكل مَلامِحِ وَجهِهِ التي تَكاد تَخُط عِبارَةَ أهلاً بِكُم بِالهِندِ عَلى جبينه.‏

ولا يَقِفُ الأَمرُ عِندَ تِلكَ المَشاعِرِ المتلاطمةِ أَو المَشاهِدِ التي تَراها عَيناكَ عِندَما تَصِلُ الأَرضَ وَتَفتَحُ ‏سِتارَهُما عَلى الفَضاءِ الكَبيرِ الذي باتَ أمامَكَ وَالذي قَد لا تَكونُ قَد رَأيتَهُ إلا عَلى شاشاتِ التَلفزةِ, بَل قَد يَبدأُ ‏مَوجٌ آخرُ عِندمَا تَجتازُ بابَ المَطارِ وتَخرجَ إِلى الشارِعِ القَريبِ الذي سَتَشعُرُ وكَأن بِلوراتِه المَرصوصةَ ‏بِعِنايةٍ تَحتوي قَطراتِ العَرَقِ الهِنديةَ المتسربةَ بِحبٍ لا مُتناهٍ, وسَتُجبِرُكَ أَيضاً عَلى الشعورِ بِالانتماءِ رُغماً ‏عَن أَنفِكَ وَتُجبر قَلبَكَ عَلى حُب الأَرضِ وَشوارِعِها وَبنائِها حَتى وإِن لَم تَعرفهُم, لِتَربِطك بِكل تِلكَ ‏الجَماداتِ الحَية حَتى وَإِن لَم تَمكُث أَكثَرَ مِن عَشرَةِ أَيامٍ هُناك.‏

مَحطةٌ رِحلتنا الهندية الأولى كانت مدينة دلهي, كانت طائرتُنا قَد وصلَت في تَمامِ الثانِية أَو الثالثة ظهراً ‏لننهي إجراءات المطار ونبدأَ المرحلة الثانية من الرحلة الأكثر متعة, وحينما بدأنا التجول في الشوارع ‏أصبحنا على موعد مع تناقضاتٍ كثيرة ستشعر وكأنها قد قطفت بعناية شديدة لترسم المدينة بكل مكوناتها ‏المترامية وبكل لقطاتها المجمعة بدقة خارقة, ستقطع تلك الشوارع في مركبتك أو حتى مشياً على قدميك ‏وسَتحس كيف تكون الشوارعُ قادرةً على إجبار العجلات أو قدميك على أخذك إلى هناك أو هنا وكأنها ‏تتعطش لقطع كل شبر من المدينة, وخلال جولتك تلك سترى كيف تمر من مناطق تفيض بالسيارات ‏الفارهة والبيوت الضخمة ثم ستصدم حينما تبتعد بضع مترات أخرى وترى فتاة سمراء بدون ملابس على ‏قارعة الطريق مع والدتها التي تبحث عن بضع روبيات قد تسد الرمق لكنها لن تحفظ ماء الوجه السائل ‏في مجارير الشوارع المتناثرة.‏

ورحلتنا في بلاد العم غاندي لم تقف على حدود دلهي وشوارعها, فخمس ساعات من السفر بالحافلة كانت ‏تملك القدرة على خلق تجربة مختلفة ومشاعر أخرى, فأوصلتنا إلى مكان مختلف تماماً بشكل يجعلك تشعر ‏أنه من عالم آخر هو مدينة "أجرا", وفي تلك المدينة ستشعر بأن الهند تحتوي من كل قطر أغنية وستشعر ‏كيف يتكاتف التاريخ والآثار والحداثة والغنى والفقر والطيبة والخوف والحب والبغض في مكان واحد ‏ليصنع الصورة الكاملة بأركانها وألوانها المتناثرة, قد لا تكون المدينة مختلفة عن سابقتها للوهلة الأولى ‏لكن بداية السيناريو المختلف لها يبدأ بمشهد"قلعة أجرا" حيث كانت الحجارة قادرة على جمع كل الحقب ‏الماضية في ثنايا جزيئاتها المتراصة, وستلمح أثراً من كل حقبة في كل زاوية أو حتى شجرة, وتحفها لا ‏تنتهي عند القلعة فهناك أيضا مكان آخر لطالما كتب في الصفحات الكثيرة بدقة بنائه وجمال عمارته هو ‏‏"تاج محل", وكل تلك الأماكن كانت قادرة على أسر العيون ونظراتها بشكل لا مثيل له, فتجعل ذاك يحدق ‏متأملاً بعظمة صنعها وذاك يلتقط صوراً هنا وهناك ليكون الجو سجناً جميلاً للعقول والقلوب.‏

‏ ومن هنا كانت بداية المحطة الأخرى لسيناريو جديد في مدينة أخرى, وكغيرها من مدن الهند كانت ‏‏"جيبور" مدينة كل شيء وبكل شيء استطاعت أن تترك بصمتها بكل ثانية من الثواني المتسارعة للرحلة ‏القصيرة.‏

وللرائحة قصة أخرى فلو مكثت في الهند لعدة أيام ستصبح الرائحة التي علقت في أنفك منذ دست الأرض ‏أول مرة عنصراً أساسياً ستشتمه دائما وعند كل دخول لأي مكان, وقد تصبح جزءاً أساسياً من حياتك لن ‏تشعر أنك في الهند إلا إذا شممته, أطواق الورد والنقاط الحمراء والصفراء التي كانت تزين أجبننا كانت ‏لمسة أخرى أيضاً,  ولو ذهبنا لجانب آخر فللطعام فصل آخر من الرواية, فكل طبق يكاد يروي حكاية ما ‏أو تأريخاً أو ربما يرسم صورة هندية بامتياز, ولو حاولت التدقيق في العيون ستشعر أنك نقلت لمجرة ‏أخرى أو عالم أخر بكل قصصه المخطوطة بشعيرات العين الدموية وستكون بحار العسل في عين أحدهم ‏أو الزرقة والخضار في عين آخر قادرة على أن تنقلك إلى فصل كبير من الرواية, من ذاك البائع الهندي ‏الذي يكاد بحر العسل الخارج من كم السمار الحالك في وجهه يخبرك بعدد ساعات العمل المرهقة التي ‏يقضيها باحثاً عن لقمة العيش, إلى فتاة بعيون زرقاء خارجة من وجهها كضوء الفجر حين طلوعه يكاد ‏جمالها ينافس كبرى ملكات الجمال, وسيجبرك كل ذلك الجمال على أن تشكر ربك خمسين مرة لأن عينك ‏رأت كل ذلك في وقت قصير فسبحان من جعل جمال الكون في مكان!‏

ورحلة كتلك لا تقتصر على الحجارة أو الأبنية أو الأماكن, فهناك الأرواح التي يكاد الكلام يقف عاجزاً عن ‏الكلام عند حدودها, فلطالما قلنا أن للسفر رفاقه المخلصين, وأولئك كانوا قادرين على تحويل كل لحظة إلى ‏بصمة لن يمحوها الزمن ولا النسيان.‏

‏ ولعل كل هذا يجعلك محتاراً وأنت تقرأ كل تلك السطور الطويلة عن الذي جمع كل تلك المعاني بزمن ‏وحروف لكن سؤالك ذاك يكاد يكون مستحيل الإجابة فهند الله الواسعة معجزة كبرى تسلب كل شيء من ‏أشيائه لتجعلك في عالم آخر تردد عبارة  "في الهند من في الهند إلا أنت والهند تعرف نفسها وتحفر نفسها ‏بكل ما أوتيت من سعة."‏


Read 725 times

© 2024 جامعة النجاح الوطنية