جامعة النجاح الوطنية
An-Najah National University

You are here


قبل فترة وجيزة ذهبت في رحلة دراسية وسياحية مع مركز الخدمة المجتمعية في الجامعة إلى ‏ألمانيا. كنت ضمن مجموعة كبيرة من الطلاب الذين جاءوا من ثلاث جامعات فلسطينية ‏مختلفة. يمكنني القول بأن هذه الرحلة قد أضافت لي الكثير وعززت لدي بعض المفاهيم والقيم ‏الموجودة سابقاً  كتقبل واحترام الأخر كما هو، فقد خلقنا مختلفين رحمة من الخالق وليس ‏لنتعادى ونتنازع. ‏


بقلم: روان عالمية

تحرير: دائرة العلاقات العامة

كانت في ذهني الكثير من الصور النمطية والأفكار والتوقعات الإيجابية والسلبية عن ألمانيا ‏والشعب الألماني. " شعب متعصب لنفسه ولغته، جامد، جاد زيادة عن اللزوم، احترام الوقت ‏الألماني، الماكنة الألمانية، النظام الألماني، جمال ألمانيا، طبيعتها، نظافة شوارعها، ‏وتطورها" . كل هذه كانت كلمات تتردد وتعاد على مسمعي كلما ذكرت اسم ألمانيا أمام أحد.‏

السفر بشكل عام تجربة غنية بكل ما تعنيه الكلمة، يرتقي ليكون دواء للروح وراحة لها في ‏بعض الأحيان. أن تسافر يعني أن تنطلق في مغامرة جميلة لمعرفة بلد جديد، ثقافة مختلفة، ‏وشعب مختلف. السفر هو أن تكون حاضراً وشاهداً على حياة هؤلاء الناس في مطاعمهم ‏الشعبية، في شوارع مدينتهم، في زقاق البيوت والحارات القديمة والحديثة، في جامعاتهم ‏ومعاهدهم، في أماكن عملهم وعلى رمال شواطئ بحارهم وأنهارهم. أن تؤسس لروابط  ‏إنسانية معهم، فتصادقهم، تعمل معهم، تمرح  معهم، وتشاركهم حتى تستطيع أن تفيد وتستفيد. ‏فتتعلم منهم ويتعلمو منك، تترك فيهم بصمة ويتركوا فيك الأثر. حتى المواقف، الأماكن، ‏المباني، والشوارع ممكن أن تعلمك وتعطيك مالم تكن تتوقعه. ‏

لن أنسى ما منحتني  اياه تلك الوقفة أمام الآثار المتبقية من جدار برلين، فعندما لمست قدماي ذلك التاريخ الطويل من الحروب، النزاع، التفرق، الاحتلال، النضال والوحدة أحسست بأن العالم سيبتسم مهما أزداد بشاعة وضاق الخناق. فلا بد أن تشرق الشمس يوما بدون مآسي ولا بد أننا سنزيل جدار الفصل ذاك الذي في أراضينا كما نجحوا هم بذلك.

أما عن الحدود التي قطعناها بلا حدود حقيقية من ألمانيا إلى بولندا، فهي قصة نجاح أخرى لأوروبا، تبدو من خلالها الوحدة واضحة في أجمل صورها. أذكر حتى التفاصيل الدقيقة لذلك اليوم، ملامح وجوهنا، نظراتنا واستغرابنا حين وصلنا إلى الحدود الألمانية-البولندية التي كانت عبارة عن حجر وعلمين. وقفت في المنتصف، رجل في الجهة اليمنى، والأخر في اليسرى. كنت في ذات اللحظة في ألمانيا وبولندا معا. قطعنا الحدود وأكملنا المشي الى بولندا، ومن ثم عدنا أدراجنا إلى ألمانيا دون أن يأتينا شرطي أو جندي يفتشنا، ودون أن نصادف حاجزاً اسمنتياً أو جسراً أو نقطة تفتيش تسألنا عن هويتنا وجوازات السفر. الأمر نفسه حدث ولكن في مكان آخر وفي منوال آخر، فعندما وصلت مطار تيغل في برلين لم يختم على جواز سفري لأنه قد سبق وختم في مطار فيينا عندما نزلنا فيه لتبديل الطائرات. فختم واحد على جوازك من دولة أوروبية عضوة في الاتحاد الأوروبي كفيل بأن يخولك بدخول جميع الدول الأوروبية الأخرى.

أما عن النظام، فقد تعلمت في ألمانيا بأنك ستنتظر الإشارة الضوئية حتى لو أن كان الشارع ‏فارغاً، وحتى وان لم توجد هناك شرطة مرور، فلا بد أن تكون لديك رقابة داخلية قوية ‏وحريصة قادرة على أن تدفع بك أيضا إلى الانتظار لثوان وقراءة التعليمات أو الكلمات حيث ‏مكان كب القمامة. لتضع الورق في مكانه المخصص، والزجاج، وكذلك البلاستيك. أما عن ‏المواصلات، السيارات والقطارات فلديهم نظام دقيق ومتطور جدا، ولكنه أيضا بسيط. لا ‏يستعصي عليك فهمه بل تخجل من نفسك إذا خالفته. فأبسط سؤال ومثال ممكن أن أطرحه هو ‏هذا:  لماذا لا يستخدمون الزامور وفي بلادنا يكون البعض كالمجانين يضغطون عليه كلما ‏رغبوا بذلك! لا أعتقد أن من الصعب على أي واحد فينا أن يتحكم بذلك الزر وببساطة أن لا ‏يضغط عليه "عالطالعة والنازلة". لن أبالغ عندما  أقول أن الصوت الوحيد الذي سمعته  من ‏هذه الفئة في شوارع ألمانيا كان صوت جرس الدراجات الهوائية. ‏

أما تجربة لقاء رئيسة برلمان المحافظة ومقابلة عمدة المدينة والجلوس معهم على نفس الطاولة ‏فكانت تجربة ممتعة، مفاجئة، غير اعتيادية، وجميلة جداً. لم يكن هناك عشرات الحرس ‏يحيطون برئيسة البرلمان من كل جانب، ولم يكن هناك موعد مأخوذ منذ شهر لمقابلة عمدة  ‏المدينة. بل كانت تجلس معنا على نفس الطاولة، أما الأخير فكان هدفه من الاستضافة أن ‏يستمع ويحاور. فتكلمنا في قضايا الشباب، والتعليم، والعمل، وأزمة اللاجئين وغيرها. كان ‏مصغيا ومتواضعا لدرجة كبيرة، واهتمت عضوة البرلمان بالتقاط صورة "السلفي" معنا دون ‏أن تحيط بها كاميرات وإعلام حكومي وحراسة من كل جانب. ‏

زرنا البرلمان الألماني " البوندستاغ "  في برلين، حيث حضرنا وشاركنا في التواجد في جلسة ‏البرلمان لذاك اليوم. حيث يحق لأي أحد أن يشارك ويحضر جلسات البرلمان، حتى وأن لم ‏يكن مواطن ألماني يحمل الجنسية الألمانية. وكانت رؤية بعض الفقرات المهمة من الدستور ‏الألماني على زجاج أحد مرافق مباني الحكومة والبرلمان من الأفكار الرائعة التي رأيتها ‏والتي تذكر المواطنين بشكل دائم  بحقوقهم وواجباتهم التي لا يجب التخلي عنها. أما عن ‏تصميم مكاتب الحكومة وبنائها بالكامل من الزجاج من أعلى قمة في المبنى إلى أسفل نقطة ‏فيه، فهم  يقولون أن ذلك لعكس شفافية السلطة  وصدقها، وأنه لا يوجد ما يخفونه عن ‏المواطنين نهائيا.

في الجامعة كنا نتناقش، نتحاور، نفكر، نحلل، نبدع، نأتي بالجديد ، ونتبادل أطراف الحديث. ‏ناقشنا قضايا مهمة جدا ومحورية في كل مجتمع مثل: قضايا خدمة المجتمع، التبادل والاندماج ‏الثقافي والحضاري، العائلة، القضاء، الإعلام، التعليم، وغيرها. تعلمنا كثير من بعضنا، هم ‏أعطونا الكثير ونحن أيضا أعطيناهم بالمقابل، تبادلنا وجهات النظر والمعرفة، و كان نتاج ذلك ‏بيئة جميلة مفتوحة للنقاش في كل وقت لكل أحد. كان من الطلاب الألمان من يدرس ‏البكالوريوس، أو الماجستير، ومنهم من يعمل ويدرس بنفس الوقت. ومنهم من تزوج وأنشأ ‏عائلة ولازال يدرس. كل واحد من هؤلاء الطلاب لديه حياته الخاصة، عائلته، وعمله ولكن ‏ذلك لم يمنعهم بأن يكونوا طلاب ساعيين وراء العلم، كما يطورون أنفسهم أيضا بالأعمال ‏التطوعية والأشغال الأخرى التي تضيف لهم خبرة ومهارات حياتية كبيرة بالإضافة لتلك ‏الشهادة. التنوع في الفئات العمرية كان ملفت ايضا، فهناك طالبة بكالوريوس يزيد عمرها عن ‏الخمسين . أما عن التنوع العرقي، فهناك طلاب من جنسيات مختلفة وأصول مختلفة في ‏الجامعة وفي المدينة نفسها كلهم يعملون يدا بيد لتطوير المجتمع ليكون في المقدمة دائما. ‏

أما عن الاحترام، الأخلاق الرفيعة، وتقبل أي إنسان كما هو واعتباره قيمة عليا لمجرد أنه ‏إنسان بغض النظرعن لونه، دينه،عرقه،هويته،جنسيته، وأفكاره فقد تعلمت الكثير. تعلمت ‏ذلك من حسن ضيافة الطلاب الألمان وأساتذتهم، من عاملة الفندق دائمة الابتسام ، ومن بائع ‏الورد في الشارع الذي لم يفهم لغتي ولم أفهم لغته، ولكنا وجدنا اللغة الإنسانية تتكلم بدلا عنا ‏فتواصلنا بشكل أو بآخر.  رأيت ذلك الصدق والأخلاق الرفيعة في حديث العمدة عن حياته ‏كطالب مهاجر في بلد أخر، وكيف أن هذه التجربة دفعته ليتفهم معاناة اللاجئين السوريين وما ‏يمروا به من صعوبات أكثر. رأيت ذلك  وأكثر في موظف المطار الذي أخذ يعتذر بشدة لي ‏لأنه اضطر أن يفتش حقيبتي يدويا لما فيها من سوائل.  في النهاية، لا شك بأن هناك بعض ‏المتعصبين، والسيئين فهؤلاء لابد أن يكونوا في كل مكان وكل زمان. ولكن تجربتي أنا ‏شخصيا وما حظيت به من معاملة كانت رائعة ولن أنسى هذه التجربة ما حييت. ‏


Read 929 times

© 2024 جامعة النجاح الوطنية