زيارتنا المدرسية للجامعة كانت سبباً بالتحاقي بكلية الطب وعلوم الصحة
ها أنا اليوم أقف على المفترق الثالث من حياتي وها هي السنة الاخيرة من مشروع حياتي الذي بدأته قبل أربع سنوات شارف على الإنتهاء. أربعُ سنواتٍ قد مرت لكنَّ شريطَ الذكرياتِ يُعيدُني دائماً إلى اللحظة الأولى، لحظة قُدومي في رحلةٍ مدرسيةٍ إلى جامعة النجاح وقيام طُلابَ متطوعين من دائرة العلاقات العامة بتعريفنا على مرافق الجامعة، حيث اصطحبونا إلى أكثر الامكان خطورة وهي المشرحة، حينها اتخذت قراراً بدراسة الطب البشري والعمل على تحقيق ذلك.
بقلم: سجى حجازي
تحرير: دائرة العلاقات العامة
أخذت الاحلام تكبر وتكبر إلى أن ظهرت نتائج الثانوية العامة المخيبةُ لآمالي فقد كان معدلي لا يؤهلُني لدراسة الطب البشري بجامعة النجاح. لكنني لم أتخل عن فكرة الدراسة فيها وكانت الصيدلة هي الخيار الأفضل بعد خيار الطب بعد أن قال لي والدي: "ما بغربك إلا لطب أو صيدلة" ومن هنا بدأت حياتي الجديدة. نعم أتكلم عن حياةٍ جديدة. فبعد شهرٍ من عيشك في السكن بعيداً عن أهلك تعرف أن الأكياس التي تحتوي على طلبات المنزل وصعود الدرج بها تؤلم الظهر، وأنْ تحضير وجبة الغذاء كل َ يوم ليست بالأمر السهل. وأنْ تصحو لوحدك باكراً أمرٌ صعب. وأنَّ برد السكن أشد بمائة مرة من برد البيت. وأنْ العلاج لم يكن سببه المضادات الحيوية بل يَدِ أمك الحانية. ، وأن الخطأ من غير عتابهم لن يُفهم، وأن الخروج من البيت دون دعوةٍ من أُمك وأَبيك ليس لها أيُّ طعم. نعم نحن صغارٌ بهم كبارٌ في بعدهم.
حقاً لا أُنكر مرحلة الصراع الذي عشتُ بهِ في أولى مراحل الجامعة وقراراتي بالخروج منها لكنّ سُرعان ما يفتح اللهُ لك باباً يزرع فيكَ أملاً ليزيد من تمسكك وصلابتك. وهو باب الصداقة. الباب الذي لن يٌغلق في وجهك مهما قست عليك الحياة. فالأصدقاء هديةُ الله لك. لست أنت من إختارهم بل جمعك الله بهم. فهم سعادتك وأملُك،هم نجاتُك وخلاصُك. هم منظارُك للحياة. تتجاوز وإياهم أكبر الصعاب. وتحمل بفضلهم أجمل الذكريات؛ معاً درسنا وفهمنا أصعب المواد. معاً نجحنا. ومعاً سنتخرج بإذن الله.
لم تكن دراسة الصيدلة وما تحمله من ضغطِ عائقاً لنا. فكان لا بد من اجتماعنا اُسبوعياً يوم الثلاثاء والذهاب إلى مكانٍ مختلفٍ في كل مرة، فقد شهدت لنا المطاعم والحدائق والشوارع وحتى الجبال على زيارتنا لها، لم نترك مكاناً إلا وزرناه وتعلمنا منه. وقدمنا ما لدينا فتارةً نمسح دمعةَ أم في دار العجزة وتارةً أُخرى نرسم بسمةً على وجوه الاطفال في دار الأيتام والمشافي. لم تمنعنا الدراسةُ عن تنمية مواهبنا الأخرى كالاهتمام بلياقتنا البدنية فقد اشتركنا بالنوادي الرياضة وداومنا على لعب كُرةِ السلة وتدربنا بمنتخب الجامعة للسباحة وقمنا بتعلم اللغة التركية بمعهد اللغات التابع للجامعة وتعلمنا التصوير الفوتوغرافي واشتركنا بكشافة الجامعة والتي كان لها الدور الكبير في زيادة وعينا وفهم الاختلاف بين الاشخاص والثقافات والأديان. منها تعلمنا الهُتافات الجميلة والتعاون البنّاء. أما الاستيقاظ باكراً ونصب الخيام فقد حفظناهُ عن ظهر قلب حين اشتركنا بالمخيم الكشفي الرابع عشر ومن خلال الكشافة زرنا العديد من المناطق وحصلنا على العديد من الشّارات.
لن أنس الإنجازات والمغامرات التي عشناها على صعيد دفعتنا من إقامة رحلاتٍ ومسرحياتٍ ومعارضٍ وندواتٍ وافطاراتٍ جماعية. شهدنا أجمل المواقف خلال تحضيرها وعرضها مما عزز الأُخوة والمحبة بيننا ومن أهم أعمالنا :"معرض الصيدلية الخضراء ويوم الكلى العالمي والأيام الطبية بالاشتراك مع مختلف التخصصات والجامعات.
أما على صعيد خدمة مدينتي وهي مدينة القدس "زهرةُ المدائن". لم يكن بعدي عنها لاُسبوعٍ أو أكثر أنْ يُنسيني ملامحها أو نسيم هوائها. بل كان يزيدُني شوقاً وتلهُفاً لها. ففي قُدسي كلُ شيءٍ مختلف خاصةً أيام الجُمع، فلا يَعتبرُ المقدسيُّ فينا نفسهُ مقدسياً إن لم يُصل الجمعة في باحات الأقصى والرباطِ في ساحاته، وتقديم الغالي والنفيس لأجله. قمت وصديقتايْ بالاشتراك بمشروع ألف فتاه لخدمة المسجد الأقصى والقائم على خدمة ضيوف الرحمن الوافدين من كل مكان لأداء عبادات شهرِ رمضان في المسجد الأقصى. كنّا نُنظم حركتهم وندلهم على الطريق ونقدم لهم أيَّ خدمةٍ أرادوها.
تُعتبر زيارتي للأندلُس مع برنامج زاجل للتبادل الشبابي الدولي التابع للعلاقات العامة من أجمل أمور حياتي فقد كان الذهاب الى تلك الرحلةِ أمراً شبه مستحيل بعد معارضةِ أهلي الشديدة للسفر دونهم. حيث أن محاولاتي لإقناعهم دامت أربعةَ أشهر حتى حصلت على الموافقة على ذهابي. وفي اليوم الذي خرجت به تأشيرةُ الذهاب إلى هناك كان العيد بالنسبةِ لي قد حلْ، وتسارعت الأيامُ لأجد نفسي أقف على باب المطارِ معلنةً إبتداء رحلة العمر.
أولى خطواتنا كانت مدينة برشلونة. مدينة الأضواء والمباني الملونة، مدينة الاكتظاظ والشوارع المزدحمة، المدينة الساحرة التي يختلطُ بحرُها بسمائها، قضينا فيها أجمل الأيام وأصعبها، فقد كانت بداية تعامُلِك وإختلاطك بأشخاص لم تعرفهم من قبل، لكنّها كانت كافيةً ليعُم التفاهمُ والتعاون والعطاء بيننا.
وفي اليوم الرابع حزمنا أمتعتنا وإنطلقنا إلى غرناطة؛ ذات الطابع الجمالي الفريد الذي تجتاحُه الخُضْرة من كل مكان وتنحني الزهور على قارعة الطريق لترحب بك، وتنسابُ جداول المياه بين تلك الطُرُقاتِ لتُرشدَك إلى طريق قمةِ الجبل هُناك ويا لها من قمة؛ يتربع قصرُ الحمراء عليها وتحتضنهُ جناتُ العريف، وتسمع زقزقة الطيور تناديك من كل مكان، ولأن التواجدَ في قصر الحمراء فُرصةٌ نادرة، أقمنا لنا ذكرى ستبقى في أذهاننا دائماً وهي تخرُجنا على أعتاب قصر الحمراء وثراه. ثم نَزلنا إلى حي البياثين، الذي تضيع بين أزقته، وتستنشق عبق الورد من بُيوتة وتُصورُ أجملَ اللوحاتِ على جدرانِ بُيوته.
غادرنا غرناطةَ متجهين إلى الجنة والنعيم، الى المبتدى والمنتهى، إلى قرطبة؛ وفيها حملتنا الأيامُ الى الوجع الكامن والمأساةِ الطامة. إلى آثارٍ تصرخ: أعيدوا لي أمجاديَّ العربية. فيها المساجدُ قد حُولت إلى كنائس وإمتلأت معالمها بالرسومات المسيحية، واستُبدل هلالُ المئذنة بجرسِ الكنيسة، ترى فيها ما وقع للمسلمين من ذلٌ وتعذيبٍ حتى اجبروا على ترك بلادهم قصراً. ثم إتجهنا إلى إشبيلية وزرنا ما بها من معالم وأهمها الخيرالدا وقصر المعتمد بن عباد وميناء النهر الكبير. كانت مدينة مدريد ختام آخر ساعاتٍ لهذه الرحلة التي لا أُنكر فيها أن السفر دون أهلٍ أو أصدقاء أمرٌ صعب لكن عند تذكُر أصعب ما عشتهُ هناك، ترتسمُ على وجهي إبتسامة لتُثبت أن الصعبَ هو ذكرى جميلة اليوم، وما كان جميلاً لا يُمكن أن يُنسى يوماً؛ كالبحر، والاسواق والمطاعم وملعب فريق برشلونة والاشخاص الذين تعرفنا عليهم بالأخص المغاربة منهم كُلها لحظاتٌ لا تٌنسى.
أعطاني السفر دافعاً وأملاً للمثابرةِ والعمل على تحقيق الحلم الذي لم يستطع معدلي في الثانوية العامة تحقيقه، فها أنا وصديقتي دلال قاسم نطمح اليوم بجدِنا وإجتهادنا لإكمال ماجستير صيدلة سريرية ثم افتتاح صيدليَتُنا الخاصة التي ستحمل اسم صيدلية الاقصى.
وبهذا أقول لكم أن سر نجاح الانسان ليس في علامةٍ طبعت، أو في تخصصٍ يدرسُه وحسب، بل بعدد أصدقائه الذين يملكُهم وعدد أحلامه التي رسمها يوماً وحققها. فأعمارُنا مرهونةٌ بأعمالنا، ونحن معشرَ الشباب إذا عزمنا على تحقيق أهدافنا لن يقف أمامنا أي عائق فإبتسم وتسّلح بالمحبة والعطاء وثق بربك ودع الدنيا تأتيك بما لديها.