جامعة النجاح الوطنية
An-Najah National University

You are here


بقلم: رنا خموس

تحرير: دائرة العلاقات العامة

طالما شعرت بعدم الرضى في كل مرة اخرج فيها مستكشفة لبلادنا المنهوبة عام 1948م . لم أكن أرغب أبداً ‏في رحلة إلى يافا وحيفا تكون نهايتها صورة في مطعم "العجوز والبحر"، وأخرى بالقرب من حديقة البهائيين ‏بينما يتحدث مرشد الباص طوال الطريق عن أسماء المدن والقرى باللغة العبرية.‏

حتى كان موعد اللقاء مع رحلة "غير اعتيادية"، كنت قد دعيت اليها من قبل الأصدقاء في برنامج زاجل ‏التابع لدائرة العلاقات العامة في جامعة النجاح الوطنية نحو الجليل الأعلى الغربي. وقفت مذهولة بتلك ‏الإطلالة الساحرة على الساحل الفلسطيني الممتد من رأس الناقورة الى ساحل عكا الرملي الواصل من شمال ‏الحدود اللبنانية الى مسافة 18 كيلو مترا، ليصل جنوبا بخط مستقيم مسافة 12 كم على طريق حيفا.

وفي الأفق ظهر جبل الجرمق شامخا بارتفاعه العالي، كان المنظر بالنسبة لي أقرب إلى "الخيال". انبهرت ‏بالمكان ورحت أدون كل قرية نمر بها حتى يتنسى لي البحث عنها بين الكتب. لن تتخيلوا كمية المعلومات ‏المكدسة في رأسي حتى اليوم. ضعت فيها وستلاحظون ذلك من خلال الكتابة.‏

‏ من خطة بنغوريون في إقامة دولة يهودية إلى طمس معالم الجليل العربية وبناء "المستوطنات الريفية" في ‏المناطق التي يتواجد فيها الفلسطينيون منها مدن "معالوت" و"الناصرة العليا" و "كرميئيل" من أجل ملئ ‏الفراغ الذي خلفته حرب 48 حسب تعبيرهم. و"كرميئيل" تلك وصفها الشاعر الكبير سميح القاسم  بـ"مدينة ‏الحقد والجوع والجماجم" عندما قال: ‏

غداً يا قصوراً رست في القبور

غداً يا ملاهي. غداٌ يا شقاء

سيذكر هذا التراب، سيذكر ‏

أنا منحناه لون الدماء

وتذكر هذي الصخور رعاة

بنوها بأدعية من حداء

وتذكر أنا.‏

هنا سفر تكوينهم ينتهي هنا سفر تكويننا في ابتداء

اصطحبنا الدليل السياحي خالد حمودة من مؤسسة "مشوار للرحلات" على سفح الجبل هناك. كانت الشمس ‏تنسج حلم المشتاقين خلف الحدود. وأما شجر السنديان والبلوط فيظللان قبور الراحلين المهجرين. لم يعرف ‏عرب العرامشة اننا سنمر على ما تبقى من قبور قريتهم المهجرة منذ عام 1948م. يسألون بصمت عما حل ‏بفردوسهم في الجليل. لم أجرؤ على القول بأن قرية إدميث أصبحت "إدميت"‏-محمية إسرائيلية أنشأها ‏الاحتلال و"كيبوتسات" لم أحفظ أسماءها.

صحيح أن الطريق من نابلس إلى الجليل الغربي ليست بعيدة، إلا أن أسماء القرى المدمرة والمهجرة جعلت ‏من الطريق لا نهاية له، فإلى الجنوب هناك عين حوض التي باتت منذ عام 1954 قرية للفنانين، وحوَل ‏مسجدها الى مطعم ومقصف. بينما هجرت عائلات مثل الشبطي والصفدي وسرحان من قريتهم الكابري.‏

نزلنا مطلين على وادي القرن الذي يتألف من التقاء واديين: وادي الحبيس بالقرب من حرفيش ووادي ‏البقيعة، ليصب في البحر شمال قرية الزيب المهجرة، على بعد 15 كم من الحدود اللبنانية- وتلك القرية تعود ‏الى العهد الفينيقي الكنعاني- تركنا كل هذا الجمال الساحر خلفنا فصار جوىً وحسرة وحقيقة " لم يزدني ‏الـِورْد إلا عطشـا" !!.‏

على بعد عشرة أمتار فقط كانت لبنان، كانت البداية الحازمة عندما قامت حكومة بيغن بما يعرف ب"عملية ‏الليطاني عام 1978م" و "سلامة الجليل عام 1982م " لتأمين الحدود على حد تعبيرهم ومنها الانتهاء من ‏المقاومة الفلسطينية وجر سوريا إلى مفاوضات تسوية. واستمرت محاولات الاحتلال في لبنان وسياسة ‏الأرض المحروقة والمجازر المتتالية إلى حين ظهور حزب الله في الجنوب اللبناني، وفي نهاية المطاف كانت ‏حكومة نتنياهو عام 1998م "غاطسة" في تساؤلات كثيرة أهمها "كيف نخرج من هذه الورطة؟!"  لم تكن ‏الأطراف الإسرائيلية جميعها راضية تماما عما جلبته الحكومة بقبول قرار مجلس الأمن رقم 425 ‏والانسحاب من لبنان ورسم الخط الأزرق.‏

إلا أن الأمر تم عام 2000م، على مرمى حجر من قرية الظاهرية اللبنانية خلف الخط الأزرق الذي رسمته ‏الأمم المتحدة، كانت دوريات قوات الأمم المتحدة (اليونيفيل) تأخذ دورها في المراقبة. وهناك أيضا، سيدة ‏فلسطينية لغتها جميلة سمراء، تحمل أكوابا من القهوة تبيعها لنا بخجل وتحمل اسما غريبا عكس حياتها التي ‏تعيشها ... اسمها عذاب..هكذا أجابت كل من سألها عنه!!. ‏

‏ مضينا متنقلين بين حكايا الجليل التي لا تنتهي وبين ضفاف طرقاته المكسوة بأشجار السرو اليانعة نحو عكا، ‏لمحنا ترشيحا "عروس الجليل" من بعيد، هي أقرب إلى البحر ببهائها من عكا الواقعة شمال شرقها تجاورها ‏كفر سميع، ومعليا، وفسوطة، وحرفيش وسحماتا المهجرة. ترشيحا لها نصيبها هي الأخرى في مواجهة اليهود ‏والحكومة البريطانية في معركتي جدين والكابري كونها مركزا للعمليات العسكرية ضد الاحتلال. ‏

سقطت ترشيحها كمثيلاتها، إلا أنها استطاعت ان تنجو بوجودها ولم تلق نفس مصير تربيخا، والدامون، ‏والبروة والبصة. وهذه الأخيرة التي بني على أرضها "مدينة شلومو" ليبقى المسجد والكنيسة باقيان حتى ‏اليوم. لماذا تركوا المسجد والكنيسة بعد أن محوا القرية عن وجه الارض!؟ هل بذلك يقولون لأنفسهم، هذا ما ‏تبقى من العدو!‏

تذكرت قصيدة سميح القاسم "التعاويذ المضادة للطائرات" التي كتبها لصديقه محمود درويش – القصيدة عن ‏قرية البروة مسقط رأس درويش- ويقول فيها:‏

نحن في عز الظهيرة،

نصف قرص الشمس يبكي في الزقاق

والدجاجات يولولن، على وقع البساطير الكبيرة

وأبي يحشو رصاصات غبية

في بقايا بندقية

بين إلحاح نداءات الرفاق:‏

‏"راحت البروة..يا ويلي على تلك الشقيه

وعلى الليات..يشد الخناق.‏

كنت طفلا آنذاك

كنت أمتص حليب التاسعة

وحليب الفاجعة

للأسف، لم يبق وقت كاف للوصول إلى ما يعرف بدرب الملح جنوب غرب حيفا، حيث كان يستخرج من مياه ‏البحر ليتبخر في أحواض قرية عتليت المدمرة عام 48، ويُذهب به باتجاه قرية الفريديس على الجمال بقوافل ‏الى سوريا، سنكتفي بقراءة اسم المستعمرات التي أنشأت على أرض القرية عام 1903م "عتليت" و"نافي ‏يام" على لافتات الطريق ونرش الملح على الجرح.‏


Read 382 times

© 2024 جامعة النجاح الوطنية