انطباعات أولية من تجربتي في اليابان

كطالبة جامعيّة، طالما تفكرت وتأملت ملامح المنظومة التعليمية في ما يسمى ( كوكب اليابان) محاولةً مني للبحث عن سرّ ازدهار وتألق البلد هنا والشعب وارتفاع جودة الحياة في كافة نواحيها، لكن منذ أصبحت أمّاً، صار هذا الجانب يستدعي التأمل لديّ أكثر، جانب الاستثمار في أغلى كنز على هذه الخليقة الا وهو الإنسان.
بقلم: جمانة خليل
تحرير: دائرة العلاقات العامة
آمنت مؤخراً أنه (على الأغلب ربّما) كلما اهتمت الدولة ومنظوماتها بهذا الكائن الصغير ذي الأصابع الألماسية كلما ارتفع فكرها وعز شأنها.
أولاً، لا بد أن نتذكر أن اليابان فيها واحد من أقل معدلات الإنجاب في العالم على الإطلاق، وارتفاع مخيف في معدلات الشيخوخة وأنك إن سرت في شارع في مدينة يابانية عصراً فقد ترى عشرة أشخاص يتجاوز متوسط أعمارهم خمسين عاماً مقابل طفل واحد أو طفلين. ومع ذلك ترى الدولة تحسب لهذه القلة الثمينة كل ما قد يخطر او لا يخطر على بال. سأذكر أمثلة قليلة من يومياتي كأم لطفلة ولدت في اليابان وهي تبلغ الثمانية أشهر.
من الناحية النفسية، كل حامل تزورها ممرضة خاصة مرسلة من الجهات الحكومية في بيتها لتتأكد من تمام صحتها النفسية والعاطفية، ومن حبها لزوجها وحب زوجها لها وتتأكد أن البيت مناسب كمكان للمعيشة لطفل مستقبلي قادم وأنه سيحظى بمساحة خاصة كافية لنموه وتطوره وراحته وأن الأم - إن كانت أجنبية - قادرة على قراءة الرسائل اللي ترسل لها باستمرار من جهات طبية حكومية مختلفة فإن لم تكن قادرة على قراءة اللغة اليابانية بطلاقة كافية (كحالتي) تخصص الحكومة لها مترجمة خاصة ترافقها متى احتاجت.
أما بعد الولادة فكل طفل منذ اليوم الأول لولادته يعامل كإنسان مكتمل النمو العاطفي والنفسي والعقلي والذهني ويحسب لمشاعره كل حساب، فمثلا عندما نقلنا طفلتنا من حضانة أ الى حضانة ب عندما كان عمرها خمسة أشهر لم يسمحوا لها أن تنتقل في يوم واحد لأن ذلك سيعرضها لصدمة عاطفية وحزن وخوف من الوجوه الجديدة التي ستحيط بها فجأة لنصف يوم! فتمت عملية النقل على مدار أسبوع، تقضي فيها ابنتي ساعة واحدة في اليوم الأول في الحضانة الجديدة ثم ساعتين في اليوم الثاني والثالث ثم ثلاث ساعات في اليوم الرابع وهكذا إلى أن تستطيع أن تستوعب التوتر العاطفي والنفسي الناتج عن تغير البيئة المفاجئ، هذه العملية تسمى في اليابانية ( ناراشي هويكوإن) وهي قانون حكومي يطبق على جميع الأطفال من عمر الصفر عند دخولهم لبيئة جديدة. أيضا، في حضانتها الجديدة تخصص معلماتها لي ساعة كل فترة لأعبر فيها عن أي مخاوف أو توترات تواجهني في حياتي كأم او أي توترات أحس بها حتى نضع خطة ونواجهها سوياً.
من الناحية الطبية، كل طفل مولود في اليابان يحظى بتأمين طبي كامل شامل يغطي كل احتياجاته الطبية في أي مكان في اليابان سواء مستشفى خاص او حكومي أو عيادة وهناك فحص طبي شامل يطبق دوريّاً كل أربعة أشهر من عمر الطفل وبشكل مجاني، الولادة مجانية ولا يسمح للأم بمغادرة المستشفى بعد الولادة إلا بعد ستة أيام على الأقل حتى يتم التأكد أنها قادرة نفسيا وعاطفيا وجسديا على القيام بهذه المسؤولية الضخمة. وإن كان هناك شك في قدرتها، ترسل الحكومة ممرضة خاصة للبيت تزورها لبضع ساعات كل يومين تقريبا كي تتحسن وهذا أيضا مجاني.
من الناحية المادية، يعطى لكل طفل مولود في اليابان راتب شهري بسيط بحيث يكون كافياً لتغطية احتياجاته البسيطة من حليب وطعام وحفاظات.
من الناحية الترفيهية والعملية، لا يمكن أن تعطى الرخصة لأي مجمع تجاري (مول) يحتوي على محلات أطفال إلا إن تم تخصيص صالة صغيرة منه لاحتياجات الأطفال الخاصة كتغيير الحفاظات والرضاعة وغيرها، تقسم الصالة إلى مكان لتغيير الملابس ومكان مقسم إلى غرف صغيرة للرضاعة الطبيعية، وغرفة فيها كراسي طعام للأطفال بحيث يستطيع الطفل تناول وجبته في جو هادئ يناسب تركيزه، هذا للأطفال فوق سن ستة أشهر عندما يبدأون بتناول الطعام، بالإضافة لمساحة لراحة الأمهات بحيث تحتوي على مايكرويف وبعض الأجهزة الكهربائية البسيطة لتناول وجبة صغيرة للأمهات المرضعات عندما يشعرن بالجوع والعطش بعد الرضاعة مباشرة. هذه الصالة ليست حكراً على الأمهات، الآباء جزء لا يتجزأ من الصورة، يغيرون ملابس الطفل بينما تستعد الأم لأخذ الطفل بعدها للرضاعة وهكذا.
نحن أكثر الشعوب تغنّياً بالأسرة وبالإنجاب والأطفال والأمومة والأبوة ودائما نكرر ونفخر بكوننا "شعوباً فتيّة" ، لكن كأي جانب آخر من حياتنا، نحن نتكلم وغيرُنا يعمل.. نحنُ نحبّ ونتغزل ونتغنى وغيرنا يقدّم.