جامعة النجاح الوطنية
An-Najah National University

You are here


يختلف المكان والمُعطى واحدٌ، يقطع الزمان من أعمارنا شوطاً آخراً والموجودُ ثابتٌ،‎ ‎في الثالث من شهر ‏يونيو كان موعدي مع طائرةٍ تغوص في جو عميقٍ تارةً وتطوف فوق السهول أخرى، تتسلقُ عنان ‏السحابِ حتى تصل برَّ الولايات المتحدة، وتحديداً مدينة جرينزبور وفي ولاية نورث كارولاينا، ولَجْتُ ‏المطارَ مندهشاً، أحمل معي حقيبة المُسقبلَ الدبلوماسية بلمعانها، ممتطياً شيئاً من حُلم الشباب العربي ‏بالهجرة المُنْتظرة، أنهيت أوراقي بسرعةٍ وإحتضنتُ نفسي فَرَحاً بعد أن قُبِّلَ جوازي الفلسطيني من خَتْم ‏مرور الأمريكية الشقراء. سارت الأمور بخيرٍ ووصلتُ حيث أراد الله. وهكذا وطئت قدماي أرضَ الحظِ، ‏وكان للحكاية أصلٌ ورواية‎.‎


بقلم: عليان صوافطة

تحرير: دائرة العلاقات العامة

لأن الصبر أول عتبة من عتبات النجاح على سلم الحياة جُلدت به، ففي كل يومٍ كان يستهلكني وأنا ذاك ‏المنتظر ردّ القنصلية بشغف على طلب التاشيرة التدريبية لعلها كانت أولى دروسي من هذه التجربة التي ‏خرجت عن الزمن بكل تفاصيلها، فكرت كثيراً قبل السفر، إلا أنني تجاهلت علامات الإستفهام التي لا ‏هروب من مواجهتها لاحقاً، فكنت أشحن نفسي بالإرادة لأن الذي لم يشرب من بئر التجربة مات ظمآناً في ‏بحور الجهل.‏

السادس من يونيو، أصل الحكاية، واليوم الأول من شهر رمضان المبارك الذي تزامن مع اليوم الأول من ‏تدريبي في مجال تصميم المباني الخضراء الصديقة للبيئة، إنطلقت من حيث أقيم في ذاك البيت العظيم ‏الذي يبعد ساعة زمنية عن الشركة التي أتدرب بها، لم أستمتع بتفاصيل الجمال التي كانت منحوتة على ‏يمين الطريق وشماله لأن المؤامرة الذهنية قد بدأت. بدأتُ أفكر بتلك الأسئلة: فأين أذهب! وماذا سأعمل؟ ‏وكيف سأبدأ؟ ومع من سأبدأ؟ ، تحالفت إحدى وخمسون ولاية في تلك اللحظة على ذاك المنفي في أروقة ‏أمريكا.‏

التجربة العلمية:‏

واجهت الكثير من المتاعب وإصطدمت بعقبات كثيرة فكنت في بداية الأمر أخيّر نفسي بين الرجوع إلى ‏بلدي أو تجاوز تلك العقبات، ولأن الطاقة الإيجابية التي فُطرنا عليها تتمرد على الواقع بكافة تفاصيله. كان ‏الخيار الثاني هو الأرجح. رفضت أن أستسلم لأول تجربة علمية وحياتية خضتها وبهذا الإصرار إستمرت ‏حكايتي، فاللغة وطريقة التفكير والإلتزام ببيئة العمل وإنتاج الأفكار الخلّاقة كلها كانت صعوبات تحولت ‏في نهاية الأمر إلى تجربة  قوية أضافت لشخصيتي الكثير من المهارات التي تبني النجاح على رصيف ‏الحياة، دخلت ببرنامج تدريبي في علم نفتقر له ويزخر به العالم. وهو تصميم المباني الخضراء الصديقة ‏للبيئة، هذا العلم الذي يوفر الراحة للإنسان والبيئة، فالتقنيات الحديثة المستخدمة في أسس التصميم ‏المستدام تقلل من إستهلاك الطاقة وانبعاثات غاز ثاني أكسيد الكربون. أمضيت شهران في ثكنة علمية ‏وهندسية بكل ما تحمل الكلمة من معنى، في بيئة لا تعرف تكتيكاً لحظياً سوى الإنتاج والعطاء من اجل ‏المستقبل النهضوي.‏

التجربة الثقافية:‏

إن الإنفتاح على ثقافة جديدة يتطلب منا الكثير من مزيج التعب والتضحية لكن ذاك التعب الذي صقلت به ‏شخصيتي قد تضاعف. عرفت أن البيئة التي تحيط بي تتكون من عدة جنسيات وثقافات، أمريكية، فرنسية، ‏كندية، هندية ومكسيكية، لكن بالإرادة وحب التعلم تستطيع أن تحول السلبية إلى إيجابية وبالإصرار ‏تختزل الأمل من الألم، فالبعد الثقافي الذي تمثل في رغبتي المتمسكة بثقافة الممكن لتغير المعطيات إلى ‏أفضل كان له أثراً كبيراً. شاهدت عقولاً منثورة في أماكن إنتظار المركبات العمومية تحتضن الأوراق ‏الأدبية ليل نهار، ولمست نوعاً من الرياضية الفكرية التي تتمثل في الكتابة والقراءة اللتان نحتاج إليهما ‏لأنهما يشكلان الأساس الأمثل في صنع أجيال ناشئة قادرة على إعادة إنتاج الفكر النهضوي، فمن هذا ‏المنطلق عززت هذه التجربة فكرة ماراثون الكتابة الذي سيعقد في نهاية الشهر الحالي، فتلك الشعوب ‏تؤمن بأن القراءة مصنع الأفكار والكتابة مصنع ذكريات وحضارة.‏

لم يكن ذاك النجاح في هذه التجربة بكافة ألوانه من صنعي فحسب، فالبيئة الإجتماعية التي عشتها هي ‏الأساس في توفير الراحة النفسية التي تطلق العنان للفرد في الإبداع، فالجالية العربية العظيمة المتحدة التي ‏تعلمت منها النجاح والعمل الإنساني وحب العطاء كانت من أجمل تفاصيل تلك الرحلة، تخوفت كثيراً ‏عندما باغتني موعد السفر لأعود الى الإطار الثقافي العربي.‏

في نهاية الأمر، وأنا الآن في جامعتي بين أساتذتي وأصدقائي أقرأ الكثير من رغبات الهجرة، فلست ممن ‏يشوه صورة المهجر لأولئك الطامحين، إلا أني لست ممن يشجع على ذلك بهدف الإقامة الدائمة، فتجربتي ‏لم تكن محض محاولة علمية فحسب، فكان لبرنامجي السياحي الذي رسمته في أوقات نهاية الإسبوع أثراً ‏كبيراً على فلسفتي الحياتية، فالدستور الذي أمتشقه الآن بعد هذه التجربة يقول: أن الحياة أكبر من أن ‏نعيشها لذلك سنعشقها والسعادة أسمى من أن نأخذها لذلك سنمنحها. والبساطة ابلغ من الفلسفة لذلك ‏سأقولها: "ان على أرض فلسطين ما يستحق الحياة".‏


Read 599 times

© 2024 جامعة النجاح الوطنية