جامعة النجاح الوطنية
An-Najah National University

You are here


هنا في هذا الكوكب، حيث يختلط هواء ألمانيا بفلسطين، لتختلج الرّوح وتندمج ‏العقول، يُقام جسرٌ مُعلّق حجارته سامية لإعادة بناء ما تبقى من ركام الإنسانيّة، لنثبت ‏فيها أن الأرض هي واحدة للجميع، وما تبقّى من تعقيدات مكانيّة مادّيّة هي لا شيء ‏سوى جدران صنعناها نحن في عقولنا وأحكمنا إغلاقها، عزلنا أنفسنا ومثّلنا أدواراً لا ‏تليق بنا كبشر، لتأتي فرصتنا كطلّاب جامعيّين واعين بفلسطينيتهم وبأهمّيّة مناقشتهم ‏قضايا إنسانيّة كثيرة على مستوى العالم، لنشر الوعي والعمل بحقوق الإنسان البسيط.‏


بقلم: حنين القطب

تحرير: دائرة العلاقات العامة

كانت المرّة الثّالثة الّتي أستنشق فيها هواء ألمانيا، إلّا أنّها الأكثر تميّزاً، حيث انطلقت ‏بصحبة فريق مركز الخدمة المجتمعيّة في الجامعة والعديد من الجامعات الفلسطينيّة ‏الأخرى بدعم من مؤسسة الداد الألمانية للقاء فريق طلّاب ألماني في جامعة ‏‏"نويبراندبورج". شعرت بالتّرحيب والمحبّة من قبل الفريق الألماني الّذي لاحظته ‏وبشدّة عن طريق الاهتمام بأدقّ التّفاصيل، هنا اختلطت الثّقافة العربية المضيافة ‏بالألمانيّة في هذه التّجربة الّتي لم أعهدها من قبل في بلد أوروبّي شعاره الأوّل "اخدم ‏نفسك".‏

نظراً للدّقّة الألمانيّة في ضبط الوقت، والسّير تماماً مع عقارب السّاعة حيث أي ‏انحراف بسيط يصنع خللاً، كنّا شديدي الدّقّة في مواعيدنا، حيث شكّل ذلك مصدر فخر ‏وتقدّم بالنّسبة لي على صعيدي الشّخصي والعملي. كان الانضباط مهماً جداً في ‏المحاضرات الّتي كانت وبشكل أساسي من صنعنا نحن كطلّاب وأساتذة. تناولنا ‏مواضيع مختلقة كحقوق الإنسان، الحرّيّة، مفهوم الأسرة وأخيراً أهمّيّة العمل ‏التّطوّعي الّذي كان موضوعنا الأساسي كفريق جامعة النّجاح الوطنيّة بقيادة الاستاذ ‏بلال سلامة. تلك النّقاشات الّتي شملت 80% من البرنامج كانت الأقوى في تعزيز ‏روح النّقاش والحوار لدي. تطوير لغتي الألمانيّة وترجمة أي فكرة غير واضحة ‏للطّرفين الفلسطيني والألماني. لقد كنت شخصاً يندفع للحديث فتعلّمت حسن الإصغاء، ‏احتواء رأي الطّرف الآخر، كما أدركت مفهوماً هامّا كنت أنطقه ولا أدرك تماماً ‏مغزاه بأن الاختلاف ليس خلافاً، فكل الشّعوب لديها تاريخها السّيء والتّعيس إلّا أن ‏ذكاءها يكمن في إعادة تدوير أنفسها واستغلال طاقاتها من اللّا شيء لتنافس على ‏مستوى الأمم. ‏

نعم زرت برلين، وأخذت صوراً تذكارية بين قطع من جدار برلين الّذي فصل بين ‏ألمانيا الشّرقيّة والغربيّة، نعم هذا ركام من تاريخ تبقى منه القليل لنعود به كلمحة أمل ‏للماضي. كانت هذه أكبر نقطة وصل بين الشّعب الألماني والفلسطيني بنظري، حيث ‏كلاهما لمس نفس المعاناة بالصّورة ذاتها ولكن باختلاف الظّروف. للحظة تخيّلت ‏جدار الفصل العنصري الّذي يقسّم فلسطين مهدوماً وقطعاً تذكاريّة منه موضوعة هنا ‏وهناك لتساعد في سرد الحكاية. أدركت أن الجدار ليس جدار المكان، هو فقط ذلك  ‏الجدار الّذي نبنيه في أزقّة عقولنا فيمنعنا من التّحرّر حتّى أمام أنفسنا. ‏

ومن الجانب التّرفيهي، زيارتنا لبحر البلطيق، ففي طريقنا إليه مررنا بحدود ألمانيا ‏وبولندا، دولتان عظميان لا يفصلهما سوى مكعّب اسفلتيّ صغير كلّف عقلي وقتاً كيّ ‏يستوعب كيف يكون ذلك، حيث وقفت بجانبه وتخيّلت نفسي على حاجز قلنديا الذي ‏يفصل بين منطقتي الضّفة والقدس، خالعةً حذائي وكل ما أرتدي من معادن منتظرة ‏مروري عبر آلة فحص المعادن علّي أمرّ هذه المرّة، ثم استقيظت من خيالي ومن ‏سخافة المشهد، لربّما يكمن هناك معنى حرّيّة التّنقّل الّذي عهدته للمرّة الأولى دون ‏التّفكير بهوّيّتي. أمّا بحر البلطيق فصدفه الأبيض سهل الانكسار علق في مخيّلتي، إذ ‏يختلف تماماً عن صدف شواطئ فلسطين المتين متموّج الألوان.‏

كما أتيحت لنا الفرصة لزيارة البرلمان الألماني في مقاطعة ميكلنبورج وعاصمتها ‏شفيرين شمال ألمانيا، حيث استقبلتنا رئيسة مجلس النّوّاب السّيّدة سيلفيا بريتشنتيدر،  ‏رأيت البساطة على غير عادتها في بلادنا حيث جلسنا معها على طاولة واحدة، تبادلنا ‏النّقاشات المختلفة حول ألمانيا وفلسطين، بالإضافة لأمانينا المستقبليّة، سرحت للحظة، ‏تخيّلت نفسي في أحد الأيّام مُستضافة كسفيرة فلسطين في ألمانيا في هذه القلعة المطلّة ‏على بحيرة شديدة الزّرقة، وتلك العبارة الّتي تعنيها إحدى اللوحات المعلّقة في إحدى ‏الغرف : "لا يمكنك الهروب من سهام الحب".‏

من ألمانيا حيث يتساوى السّفير بعامل النّظافة، في شوارعٍ أدهشني "بكيت شيبس" ‏عقيم لم أر له أخاً مرمياً على الشّارع، أعود لفلسطين، بهواء مختلط أرجو أن نكسر به ‏حواجز عقولنا بطريقة نوجّه فيها حضارتنا بشعاع سليم، شعاع الاحترام والنّظافة التّي ‏كانت دياناتنا أول من دعت لهم، فالحضارة ليست بنسيان العربيّة وإدخال كلمات ‏أجنبيّة إلى كلامنا، ولا بالتّسابق لإظهار مفاتن الجسد، إنّها فقط أسلوب حياة يكمن ‏بمعرفة الحقوق تماماً وإقامة الواجبات، ومعاملة بعضنا البعض بصورة مجرّدة من ‏القشور فقط ك "إنسان".‏


Read 446 times

© 2024 جامعة النجاح الوطنية