جامعة النجاح الوطنية
An-Najah National University

You are here


لا أمتلك سوى تخيل وقع حوافر الخيل على ضفاف بحيرة طبرية خلال عرض مسرحي شهدته مدينة نابلس مؤخراً لمسرح الحكواتي ‏قدم فيه مسرحية "قناديل ملك الجليل". فعلى ضفاف تلك البحيرة تشكل تاريخ ساحر لم نسمع جلبته، وعلى ضوء قنديل ولد ملك ‏الجليل." فلهذه البلاد شمس، وستكبر أكثر وتصبح كما نريدها أن تكون".‏


بقلم: رنا الخموس ‏

تحرير: دائرة العلاقات العامة

ظلمت نفسي كثيراً عندما كنت أحاول أن التقط بعد الصور ومقاطع الفيديو للمسرحية. صحيح أنني لست ملمة بالمسرح والدراما، الا ‏أن المسرحية كانت عملا إبداعيا جديراً بالاهتمام. فاخراج عمل درامي من رواية بأهمية "قناديل ملك الجليل" ليس بالأمر السهل، ‏رواية رسمت فلسطين خلال القرن الثامن عشر بحلوها ومرها. وقد استطاعت المسرحية رسم فصول حياة الظاهر عمر الزيداني ‏بطريقة سلسة وعميقة رغم زخم الاحداث فيها، واختزال أجزاء من تاريخ هذه الشخصية. كما أن لعب الممثلين شخصيات مركبة ‏‏(مزدوجة) أثراها خاصة الأسلوب السردي الذي لعبته شخصية نجمة، ومع كل ذلك نجحت المسرحية في تغطية أكبر جزء ممكن من ‏هذه الشخصية الفذة وتناول جانب حياته الإنسانية والعسكرية. وقد تناولت بإتقان أبرز محطاته في إقامة دولة أساسها الحرية والعدالة، ‏من خلال توحيد صفوف العرب في بلاد الشام وصولا لمصر في نهاية الحكم العثماني للبلاد والثورة على المتسلمين الذين استبدوا ‏بالعباد بحجة جمع أموال الميري للسلطنة.‏

لم ينطفئ قنديل الزيداني لحسن حظنا، فهو أكثر من كونه بطلا احتفى به الناس في المنطقة الممتدة بين البحرين: بحر الجليل وبحر ‏عكا، هو انسان قبل كل شيء فإن "أسوأ فكرة خطرت للإنسان: أن يكون بطلا في الحرب، وهناك ألف مكان آخر يمكن ان يكون فيها ‏بطلا حقيقا، ولكن هذه الحرب فرضت علينا، ولم نخضها لكي نصبح ابطالا، بل خضناها لكي نكون بشرا".‏

مشاهد متلاحقة تحكي ولادته التي بدأت مع صهيل حليمة، وكيف تشكلت الهوية الفلسطينية التي رضعت الأصالة والعزة من تلك ‏الخيل البيضاء، وخروجه منها خوفا من الدم الذي لاحقه بعد ان استنجدت به الصبية من يدي المغتصب، "فالأصيل لا يطلب ثمنا ‏لأصالته، فالثمن هو ذلك الإحساس الذي منحه لنفسه كونه اصيلا". حركة الممثلين على المسرح التي بدت واضحة تماما بانها جزء ‏من الخيل.. الاضاءة التي امتزج نورها مع غبار الأرض الذي يتنفسه الزيداني مع كل عقبة تترصد به.. فمن طبرية انطلق "وبزوغ ‏شمس عصر زمن اخر، لا يشبه أي زمن سبقه" ...نحو صفد وجدين والناصرة وسواها. ناهيك عن المؤثرات الصوتية التي نقلت ‏هدير البحر وصليل السيوف وخبطات اقدام عسكر الباشا التي قام بها الممثلون بمهارة حتى وصلوا اسوار عكا حيث النوارس وقرص ‏الشمس الارجواني يذوب في البحر" بحر عكا غير بحر الجليل، من لم ير البحر لا يستطيع أن يقول انه رأى الدنيا... نحن بحاجة ‏للبحر الكبير، بحاجة لمكان، اذا ما جلسنا على شرفته نستطيع ان نرى العالم منه ويرانا العالم" ففتح الزيداني نوافذ فلسطين للتجارة ‏الدولية.‏

أعترف انني ظلمت ظاهر عمر الزيداني مرات عديدة خلال اعدادي لتقارير صحفية، ولم أوفه حقه فيها، كنت خلالها اتحدث عن ‏بعض المواقع الاثرية في منطقة نابلس وبالتحديد جامع الخضرة حيث كان الزيداني يهاجم أبوابها لتأديب البكوات والاغوات" كانت ‏نابلس قد اكتست بلون نحاسي مع اقتراب غروب الشمس. تغير لون العشب والازهار البرية التي غمرت كل شيء....وفي اللحظة ‏التي بدا فيها ان ظاهر سيكتفي بحصار المدينة، استطاع نقل مدافعه سرا الى قرية رفيديا..وظلت طلائع فرسانه تتقدم حتى وصلت ‏جامع الخضرة والبساتين المحيطة به". كان لتلك الشخصية القوية حضورا قويا في مسرحية "قناديل ملك الجليل" فالممثلون المبدعون ‏عايشوا الشخصيات بكل جوارحهم وهذا ما شعرنا به نحن المتفرجون.‏

استطاعت المسرحية رغم وقتها المحدود معالجة العديد من الموضوعات التي لا نزال نعيشها، الاحتلال..الصراع الاخوي-فلا تعرف ‏العدو من الصديق-..المكائد التي كانت تحاك من المقربين..التعايش والتسامح الديني..الحرب  باسم الدين...حتى الحب كان موضوع ‏نقاش تجاذبت اطرافه مشاهد المسرحية برقي "في قديم الزمان، حين لم يكن على الأرض أناس بعد، كانت الفضائل والرذائل تطوف ‏العالم معا، وتشعر بالملل الشديد! ذات يوم، وللخروج من هذا الملل، اقترح الجنون، لعبة، وأسماها الاستغماية.‏

أحب الجميع الفكرة، وصرخ الجنون: أريد أن أبدأ..أريد أن أبدأ! أنا صاحب الفكرة وأنا من سيغمض عينيه ويبدأ العد، وأنتم عليكم ‏الاختفاء! ثم إنه اتكأ بمرفقيه على شجرة، وبدأ" واحد...اثنان...ثلاثة..وبدأت الفضائل والرذائل بالاختباء.‏

الرقة وجدت مكانا لنفسها في القمر، واخفت الخيانة نفسها في كومة الطين، واندس الامل بين الغيوم! الكذب قال بصوت عال: سأخفي ‏نفسي تحت الحجارة. ومضى الشوق الى قعر بحيرة طبرية. واستمر الجنون: تسعة وسبعون..ثمانون..واحد وثمانون. خلال ذلك ‏أتمت الفضائل والرذائل اختباءها، ما عدا الحب، كعادته، لم يكن صاحب قرار! وهكذا، لم يعرف أين يختفي. وهذا غير مفاجئ لأحد! ‏فنحن نعلم كم هو صعب إخفاء الحب!‏

تابع الجنون: خمسة وتسعون...وعندما وصل الى مائة، قفز الحب داخل شجيرة ورد واختفى في داخلها! فتح الجنون عينيه، وبدأ ‏البحث صائحا: أنا ات اليكم..انا ات اليكم!‏

كان الكسل أول من انكشف، لأنه لم يبذل أي جهد في إخفاء نفسه! ثم ظهرت الرقة المختفية في القمر. وبعدها الامل، وخرج الشوق ‏من قاع البحيرة مقطوع النفس!‏

‏ وجدهم الجنون جمعيا، ما عدا الحب. فكاد يصاب بالإحباط واليأس. لكن الحسد اقترب منه وهمس في أذنه: الحب مختف في شجيرة ‏الورد! التقط الجنون شوكة كبيرة كرأس رمح، وبدأ بطعن شجيرة الورد، ولم يتوقف الا عندما سمع صوت بكاء يمزق القلوب. ظهر ‏الحب وهو يحجب عينيه بيديه، والدم يقطر من بين أصابعه، صاح الجنون نادما: يا إلهي ماذا فعلت؟ ماذا أفعل كي أصلح غلطتي بعد ‏أن أفقدتك البصر؟! أجابه الحب: لن تستطيع إعادة النظر إلي، لن تستطيع.‏

مرت أيام والحزن يخيم على كل شيء، وذات صباح عاد الجنون وقال للحب: أريد أن أصلح غلطتي، ساعدني!‏

هل أنت متأكد من ذلك، أيا كان ما سأطلبه منك؟!‏

فقال الجنون: سأفعل كل ما تريد.‏            

أطرق الحب، وبعد صمت طويل قال: كن دليلي!‏

أنا؟!‏

نعم أنت!‏

وهذا ما حصل منذ تلك الأيام: يمضي الحب في الأرض أعمى، يقوده الجنون".‏

استفزت المسرحية ذاكرتي وهو ما استطاعت فعله عند العديد من الحضور، وأثارت العديد من التساؤلات في ذهني لم اجد لها ‏إجابة..الا ان صوت التهليلة التي رددتها الممثلة اعادتني من جديد وهي تغني بصوت رفيع وجميل ...‏

‏"راح الظالم والظالم دايما بروح

مهما اتجنى علينا وملانا جروح ‏

ما بننسى يوم البعنة، من ظلمه نجوح

والدم الطاهر سايل على لبواب

راح الظالم يا ربي..ولا تعيده

وزيده يا ربي ذل وظلك زيده!‏

حرم قلبي من قلبي وفرحة عيده

يوم رفرف ع البعنة زي الغراب".‏

وعلى نفس الشاطئ كانت النهاية تختلف عن بداياتها ...نهاية لمست روحي مع هذا الصوت الذي غير مجرى حياتنا..الوطن الذي لم ‏نستطع حتى اليوم ان ننير له قنديل" لا تشبه البدايات شيئا مثلما تشبه صعود الجبل، أما النهايات فلا تشبه شيئا مثلما تشبه التدحرج ‏عنه!".‏

ملاحظة: النص المنشور بين علامات التنصيص من الرواية.


Read 369 times

© 2024 جامعة النجاح الوطنية